يرى الكثيرون أن المجتمعات في عصر العولمة تصبح أقلّ هرميةً وهيراركية، وأكثر أفقية. وقد تبدو هذه المقولة بعيدةً للبعض عن مواضيع مثل المقاومة والتغيير، ودور الأحزاب ومستقبلها في عالمنا العربي، وخاصةً في مصر. إلا أنها مقولة تعطي مدلولاً واسعاً حول الأنساق التنظيمية الجديدة، وكيفية تشكّلها وأنماط تفاعلها. مما يعني أن تلك المقولة تأخذنا مباشرة إلى صلب الأحزاب السياسية من ناحية البنية والوظائف. ويمكن أن تقودنا هذه المقولة لنقرأ مستقبل الأحزاب، وإلى رسم ملامح التحولات، التي ستعيد مسار إنتاجها بشكل مغاير للمتعارف عليه أو إعلان موتها لكامل.
فلقد أدى ميلاد الشعب القومي، أو الإحساس بذلك الشعور وظهور مفهوم السيادة، إلى ولادة الدولة القومية الحديثة ككيان أعلى، يمثل ويحافظ على ذلك الشعب ويدير شؤونه. وإذا كان ميلاد الجماهير والجموع واختلاف شرائحهم وفئاتهم هو ما ولد النقابات والأحزاب السياسية، فميلاد الجموع بشكله الجديد في عصر العولمة يواكبه ميلاد أنماط تنظيمية غير شجرية ولها خصائص مختلفة تماماً عنها. والحقيقة؛ إن صلب هذا التغير يكمن في تحول عالمي ضخم في تاريخ المجتماعات وتركيبات السلطة وآليات ممارساتها وقنواتها.
ففي تسعينيات القرن الماضي، كتب الفيلسوف الفرنسي جيل ديلوز مقالةً غايةً في الأهمية، ولكنها غايةً في الغموض إلى حد بعيد، بعنوان "مجتمع السيطرة". وتحدث ديلوز في تلك المقالة عن أن المجتمعات تمرّ بتحول كبير من المجتمع الانضباطي إلى مجتمع السيطرة. وتحدث الفرنسي فوكو في أعماله عن المجتمع الانضباطي وحلل علاقات السلطة به. ويرى ديلوز أن مؤسسات مثل السجن والمصنع والمستشفى والمدرسة تمر بأزمة عميقة في كل مكان. وأن المسألة مجرد وقت حتى تلملم تلك المؤسسات أوراقها وترحل. ويشير ديلوز، إلى أن السيطرة والسلطة أصبحتا تمارسان من خلال أنساق جديدة، مثل شفرات الحاسوب التكنولوجية، وأن المصنع تحول دوره. وصارت المؤسسات الاقتصادية العابرة للقارات والسوق أشكالاً جديدةً للسيطرة. ويشير إلى أن جدران تلك المؤسسات لم تعد تمثل الكثير، فهناك من لديه شفرة العبور لمنطقة ما أو معلومة. فلم تعد المساحات المغلقة المتعددة التي يمر بها الفرد في المجتمع الانضباطي هي المحك الرئيسي في مجتمعات السيطرة (Deleuze, 1990). صارت أنماط السلطة والسيطرة أكثر سيولة من تلك الانضباطية. ودخلت مؤسساتهاإلى أزمة ضخمة، مما يعني عدم فاعليتها، إذا لم تتحول إلى أنساق آخرى، وهو ما بدأ يحدث بالفعل على مستويات عديدة. فالمدرسة تستبدلها، إلى درجة عالية، التدريبات الدائمة وأنماط التعليم المفتوحة. والمصنع والإنتاج إستبدلا بالتسويق والبورصة، ولم يعد الاهتمّام ينصبّ على أدوات الإنتاج، بقدر ما أصبح ينصبّ على التحكم في السوق وشراء الأسهم والسيطرة عليها.
ولقد أكمل مايكل هارت عمل ديلوز على مجتمع السيطرة، الذي رأى أنه عمل مقتضب إلى حد بعيد. وفي مقالة مطولة أوضح هارت فيها أن "المؤسسات الانضباطية لا تنهار بالشكل الذي يجعل منطق آليات الانضباط غير فعالة" (Hardt, 1998) . بل على العكس تماماً، فهارت يرى أن تلك الآليات صارت تخترق الجسد الاجتماعي بشكل أكثر سيولةً وانتشاراً. ويرى هارت وديلوز أيضاً، أن الفرد كان ينتقل في مراحل متقطعة بين تلك المؤسسات في المجتمع الانضباطي؛ ففي داخل جدران المدرسة هو/هي لم يعد داخل الأسرة. وفي المصنع هو/هي لم يعد في المدرسة. وفي الجيش والسجن والمستشفى أحياناً فهو/هي لم يعد بأي من المؤسسات السابقة (المرجع السابق). أما في مجتمع السيطرة فكل هذه المؤسسات صارت في حالة سيولة واستمرارية غير متقطعة وغير مرتبطة بمكان ما ولا زمان محدد سلفاً. ويطرح هارت السوق كنموذج لفهم مجتمع السيطرة وتعبيراً عنه مثلما طرح فوكو نموذج "البنوبتكون" (برج المراقبة) لفهم المجتمع الانضباطي (المرجع السابق).
وإذا كانت الذات تصنع في "أرخبيل من المصانع" (المرجع السابق) (المدرسة، المصنع وما إلى ذلك) في المجتمع الانضباطي، فهي أصبحت تصنع من خلال موجات وبشكل أكثر كثافةً واتساعاً من ذي قبل. لأن المؤسسات أصبحت في حالة سيولة ولا تعمل في حيّز زمني محدد. بل على العكس، حيث أصبحت تعمل في كل الأوقات وتجاوزت مساحاتها التي كانت تعزلها عن مساحات آخرى، كجدران كل مؤسسة. ويرى هارت ونيجري أن ”ذبول“ المجتمع المدني يرجع إلى تراجع الدور الوسائطي للمؤسسات الاجتماعية. ويرجع هارت هذا الأمر إلى طبيعة المجتمع الما-بعد حداثي، حيث تنتهي عملية الفصل بين الخارج والداخل. فأهم صفات عصر الحداثة، هي تلك الثنائية الجامدة بين الداخل والخارج، بين حالة الطبيعة والداخل المدني المتحضر. فقد تكون طبيعة هذا العصر وعمليات العولمة قد وضعت حداً لما هو في الخارج. فالأصل في عمليات العولمة والمشروع النيو-ليبرالي والرأسمالية الحالية، هو عمليات الإدخال والابتلاع والإحتواء وليست عمليات الإقصاء والإخراج؛ فالجميع يجب أن يكونوا بالسوق، ربما داخله بدرجات متفاوته، ولكن ليس من المفضل التواجد خارج النظام.
ثاني أوكسيد الكاربون والحداثة والبيئة المصرية
وربما يرى البعض، أن هذا الحديث لا ينطبق على بلد مثل مصر، حيث يعتبرها البعض، مجتمعاً ما قبل حداثي بالأساس. وهو طرح لا يستطيع فهم الحداثة كمنظومة متكاملة ومترابطة. ربط الاستعمار في البداية، النخب والمؤسسات بعالمه ونمط تنظيمه وتفاعله حتى يستطيع ربط وجوده. وكذلك فعلت الرأسمالية بكافة أشكالها ومراحلها، حيث صدّرت المؤسسات والأنظمة على شاكلة حداثية تستطيع ربطها بسوق كبير. أضف إلى ذلك، أن التخيّل الخطي الساذج، الذي يفترض أن مصر تعيش ما عاشته أوروبا منذ مئة أو خمسين عاماً، يفتقد لرؤية العولمة كشبكة مترابطة من المصالح الاجتماعية والاقتصادية. حيث تعبّر عن نفسها في كثير من الأحيان، من خلال مؤسسات سياسية وتشريعية. وهذه الرؤية الخطية تغفل دور وهيمنة الدولة القومية الحديثة على التصور المعرفي وتأسيس الحياة المادية. ثم إن خروج أول أوكسيد الكاربون لا يعني أن عملية الحرق لم تتم، ولكنه يعني أن عملية الحرق لم تتم بشكل كامل وقطعي. ولا يعني بالضرورة عدم خروج ثاني أكسيد الكربون.
من الجدير ربط السياق العالمي بالمحلي والقومي، الذي مرت به مصر في مرحلتي الإنّفتاح الاقتصادي في عصر السادات، واتفاقية كامب دافيد مع إسرائيل. فمع إستكمال مبارك لسياسات السادات، بل توسيع حيز تلك السياسات، أصبحت مصر بمثابة سوقاً للاستهلاك والتفريغ، لنقل بعض الصناعات الغير مرغوب فيها في العالم الغربي (مثل نقل مصنع لافارج للأسمنت). وبهذا أصبحت ذات إرتباط وثيق بالسوق العالمي. وعلى المستوى الجيو- سياسي، أصبحت جزءاً ضليعاً في استكمال المشروع النيو-ليبرالي وإعادة إنّتاج شرق أوسطٍ جديد. أضف إلى ذلك، ارتباط نخب ثقافية واقتصادية في المجتمع المصري بنظرائها على المستوى العالمي، بشكل يتجاوز للدول ولكنه لا يتصارع معها ومع نظامها السياسي. بل صارت الدولة ونظامها السياسي، جزءاً رئيسياً في تلك الشبكة دون أن تقف على رأس الهرم.
أما القائل، إن الريف والصعيد في مصر لم يمرّا بالحداثة في ظل كل تلك الإشكاليات التي يطرحها السوق، فهو لا يرى أن أمراً مشابهاً ينطبق على الريف في أوربا وأمريكا. حيث ما زالت العائلة ذات دور أساسي ومؤثر، وما زالت تلك المجتمعات تعيش تحت أشكال كثيرة من حياة المجتمعات التقليدية. أضف إلى ذلك أن أشكال السلطة وعقليات الحكم المختلفة، لا تقوم بالضرورة بعمليات إزاحة كلية لما يسبقها من منظومات.
والغرض من هذا الجدل هو تفنيدالحجج القائلة إن علينا أن نتبع الغرب في مراحل الحداثة والتنمية السياسية عن طريق المرور بنفس المراحل التي مرت بها تلك المجتمعات، حتى لو أنها انتهت عنده وتتعرض لأزمات كبيرة. وهنا وجب التنويه إلى أن الأحزاب السياسية لا تشكل بالضرورة الطريقة الأمثل للتحول الديمقراطي، كما يرى أتباع نظرية التنمية السياسية. بل تشهد حالة تراجع كبيرة في العالم الغربي وتشهد مجتمعاته قدراً كبيراً من العزوف عنها. فهناك أزمة كبيرة في دور المؤسسات الوسيطة والتمثيلية والمؤسسات الانضباطية مثلما أوضحنا. أي بعبارة أخرى، المؤسسات الشجرية القائمة والتي مثلت مشروع الحداثة بشكل أو بآخر، أصبحت في حالة تآكل وذبول. وتصبح أنماط وممارسات السلطة أكثر سيولة، في ظل عالم أصبح أقل هرميةً وهيراركية. تكمن خطورة هذا الطرح الخطي كونه لا يستطيع تأمل وبلورة ما تطرحه الثورة المصرية من أنساق تنظيمية وحركية جديدة، ليس فقط في مصر ولكن على الساحة العالمية. يرتكز مشروع الثورة على مقومات هائلة لتفكيك هيمنة المجتمع الانضباطي، وهيمنته على الأفراد. وعندما نتحدث عن هذا التحول العالمي من المجتمع الانضباطي إلى مجتمع السيطرة، لا نقصد بذلك وجود قطيعة كلية. فالمجتمع الانضباطي مازال قائماً بالفعل ودخولنا في مجتمع السيطرة لا يعني انتهاءه بصورة كاملة. وكما يرى هارت ونيجري، فعلى الرغم من أننا نعيش في عصر العولمة، إلا أن هذا لا يعني انتهاء الدولة القومية الحديثة، بل إنها أصبحت أكثرَ فاعليةً وحدةً ولكن بأنماط آخرى وأدوار مغايرة إلى حد ما.
السطلة والفجوات والمقاومة
للعولمة وجهان، مثلما يوضح هارت ونيجري. الأول يعبّر عن "انتشار وتوسع الإمبراطورية (أو مجتمع السيطرة) وهو محاولة لتوسيع شبكاتها الهيراركية وتقسيماتها، التي تصون النظام وتحافظ عليه من خلال مكينزمات السيطرة والنزاع الدائم" (Hardt and Negri, 2005: xiii). أي بعبارة أخرى، ترسيخ لهيمنة القوى الحاكمة، بل وعولمتها والحفاظ على ترتيب طبقي وسياسي وثقافي معين. تحمل هذه المحاولة، كذلك، قدراً كبيراً من التنميط لتوسيع قيم الرأسمالية واستكمال قدرتها على الاستيعاب والتوغل. وهنا يمكن رؤية العولمة كعمليات غلق. مثلما هو الحال مع الحدود أو متطلبات التأشيرات لدول الاتحاد الأوروبي وأمريكا. فهنا العالم ليس قرية صغيرة، ولكنه مساحات ترسخ إمكانية الانتقال والحركة لمجموعات أو أفراد فقط، يسمح لهم بالتنقل الحر لترسيخ المنظومة.
أما الوجه الآخر، فهو ذلك الوجه الذي يعلن عن ميلاد الجموع الجديدة التي سماها هارت ونيجري Mulititude (المرجع السابق). ويعبّر هذا الوجه من العولمة عن نفسه، من خلال شبكات أفقية من الجماهير، التي تتواصل مع بعضها البعض وتسعى لإيجاد المشترك وتحافظ على الاختلاف والتباين. ويؤكد كل منهما على أن أهم ما يميز تلك الجموع الجديدة عن كل من مفهومي، الشعب والجموع، هو تعددية الكلمة والمدلول والطبيعة. فالاختلاف والتباين هما الأصل في Mulititude. والحقيقية إن هذه الجموع الجديدة ليست عشوائيةً أو فوضويةً، مثلما يمكن أن يتخيل. فهي قادرة على التنظيم وتعبئة الموارد وتحمل في طياتها أنماطاً جديدةً من القيادة. وهي قادرة على خلق أهداف وتحديد أولويات وتتحرك وفق رؤى وتصورات.
أما الاختلاف الرئيسي فهو غياب البينة الجامدة والمأسسة الزائدة والتمثيل الهرمي. فمثلما لا يعني ذبول المؤسسات انتهاء منطق آليات الانضباط، بل يعني أنها صارت أكثر سيولة وكثافة. كذلك الحال عند الجموع الجديدة؛ فغياب التنظيم الهرمي لا يعني العشوائية والتخبط، والسيولة لا تعني غياب التوجه والرؤية، بل تصبح الفكرة أكثر كثافةً وتركيزاً، حينما تتحرر من القيود التنظيمية، وتستطيع الجماهير أن تحملها وتمثلها بشكل مباشر. وبهذا لا يعني تفكيك المركز الغياب والذبول، ولكن يعني الاتساع الأفقي والتسرب داخل الأنسجة المختلفة.
ولعل هذا هو الفارق الرئيسي بين حزب أو جماعة مثل الإخوان المسلمين وحركة حازمون، وذلك على عدة مستويات: الفكرة والتنظيم وتعبئة الموارد والحشد. تنحصر في الأولى الفكرة داخل الحالة التنظيمية الصلبة. أما في الثانية، فتتمحور الفكرة حول فهم معين للسلفية، يتحرر من الأطر التنظيمية. وبالتالي فإن الأولى عبارة عن خطوط رأسية وتراتبية هرمية، والثانية خطوط أفقية شبكية تتواصل على مستوى السطح، بقدر ما تستطيع الفكرة وأفرادها التوسع. الأولى صلبة ومتماسكة تنظيمياً والثانية سائلة ولكنها مركزة ومكثفة في التأثير والتفاعل. الأولى تعتمد على متتالية رأسية للأوامر التنظيمية. تعتمد الثانية، في المقابل، على المبادرة والمشاركة والتمثيل المباشر، لا على التفويض الممنوح من سلطة ما، تمثلها جهة ما. وكذلك الحال في تعبئة الموارد، ففي الأولى يتحمل التنظيم الشجري العبء والتخطيط والتحضير، وهو ما يقلص القدرة على التحرك السريع والمباغة. كما يعتمد على رأس مال ضخم، حتى يتمكن من التحرك الإستراتيجي الفعال. في المقابل، يعتمد الثاني على المبادرات والتطوع، أي أنه يعتمد على رأس المال البشري. كما أن التمثيل المباشر يعطي أفراد الحركة الحرية والثقة في أخذ زمام المبادرة. مما يؤدي إلى سرعة الحركة والتفاعل الفوري مع الأحداث والفاعلية، بسبب غياب التنظيم الهيراركي وضرورة الرجوع إلى رؤوسه قبل التحرك. ولذلك من غير المستغرب أن تظهر حركة كحازمون، كل تلك القدرات في الحشد والتعبئة في مواجهة الجماعة على الرغم من أن الأخيرة حديثة العهد مقارنة بحركة الإخوان.
وإذا عدنا مرة أخرى للعولمة، فإن الوجه الآخر منها، يتجلى في استغلال الفجوات التي خلقتها المنظومة الجديدة. وهو عبارة عن قلب للنظام بنفس أدواته وظهور مقاومة عنيفة ضده، كانت كامنة في علاقات السلطة داخله. فبدلاً من استمرار التنميط والهيمنة والمسخ، نشهد انتشاراً وعولمةً لأنوع التنظيم المختلفة وكذلك للقيم المغايرة للرأسمالية. وبدلاً من أن تفرض القوى العسكرية الثقيلة هيمنها بقوة السلاح، استطاعت الجماعات الصغيرة إرباك القوى العسكرية وخلق نمط جديد من الحرب الغير متوازية. وتمكنت الجماعات الصغيرة من ذلك عبر أشكال تنظيمية شبكية لديها القدرة على التوغل الأفقي في المجتمعات. (المرجع السابق: 10-30). وعلى سبيل المثال، لم تتمكن آلة الحرب الإسرائيلية من سحق حزب الله في جنوب لبنان في حرب تموز 2006. وبدلاً من أن تسقط الأحزاب السياسية وجماعة الإخوان المسلمين النظام السياسي في مصر، أسقطته الخلايا الشبابية والتحركات الشعبية العفوية. ولم تتمكن قوات الأمن المركزي والداخلية من سحق الثوار السلميين في 28 يناير 2011. بل تمكنت الجموع بتكتيكات ومناورات بسطية، من محاصرة جحافل الأمن وسحقهم وهزيمتهم في بعض المدن، كالإسكندرية والإسماعيلية، في أقل من خمس ساعات.
الموضوع الرئيسي يتمثل هنا في تناول الأشكال الجديدة للقاومة والتنظيم في مواجهة السلطة في عصر العولمة ومجتمع السيطرة. إضافة إلى رسم خطوط تواصل بين العالمي والإقليمي والداخلي أو القومي. إنني أرى أن التنظيم هو تجلّ للقيمة والتصور والخيال السياسي والعكس هو الصحيح. أي أن القيم والتصورات والخيال السياسي تشكل في الكثير من الأحيان إنعاكساً لهمينة نمط معين من التنظيم والبنية التي تنظم الأفكار أو تحاصرها. وإذا تأملنا أنماط التنظيم الجديدة، من المقاومة العسكرية إلى أشكال الثورة الحالية، سنجد أنها تأخذ ذلك الشكل الأفقي والشبكي، الذي يشبه عالم شبكة الإنترنيت مثلاً. وتغيب عن هذه الأشكال المركزية والهرمية والهيراركية وتراتبية السلطة من أعلى إلى أسفل وتتسم بالسيولة وإعادة التشكل والتولد.
عن ملامح الجموع الجديدة والثورة المصرية
في الجزء الأول من هذا البحث قمت بشرح أشكال تحول السلطة في عصر العولمة وكذلك أشكال تطور المقاومة والثورة . في هذا الجزء سأتطرق لطبيعة الجموع الشابة الجديدة في محاولة لقراءة مستقبل المقاومة والحركات المناهضة لطبيعة السلطة والأحزاب في بنيتها ووظيفتها. وسأركز على الحالة الثورية المصرية لأنني أرى أنها تجلّ لظاهرة وميلاد الجموع الجديدة-Multitude.
إن أهم ما يميز الثورة المصرية والجموع التي قامت بها، هو التنوع. لم تتكون كتلة تاريخية أو كتلة مهيمنة، كما يصفها أنتونيو جرامشي. فالميدان والشوارع كانت لوحة من ألوان الطيف المفعمة بالحياة والحركة والتركيبات اللانهائية. فلم يكن اللون الزيتي أو الأصفر (أي الجيش) هو لونها الرئيسي، ولم يكن أزرق العمال هو سيد مشهدها، ولم تكن صيحات الطلاب الحماسية والمتدفقة من جامعاتها هي صوتها العالي، على الرغم من أن أغلب شبابها كانوا من طلاب الجامعات. وكان تنوع الأفكار واختلافها بمثابة سمتها الرئيسية. إنني أرى أن الملحمة والحالة الثورية الممتدة حتى الآن ما هي إلا إنعكاس لذروة التشبيك والتواصل بين الجموع الجديدة في محاولة للبحث عن المشترك ومحاربة السلطة كمنظومة. وذلك على عكس ما يذهب إليه البعض في القول، إن الثورة ما هي إلا إنعكاس لوحدة الجموع وظهورها ككتلة وظهور الشعب المصري في مواجهة السلطة. في الواقع إن هذا الطرح لا يعدو أكثر من كونه طرحاً رومانسياً وحالماً يحاول تأويل أي لحظة لإظهار الشعب المتجانس.
ولعل الدليل على صحة طرحي، هو أن الاختلاف والتباين لم يتلاشيا ولو للحظة. كما لم يتمكن أحد تجميع هذا الشعب، المفترض، تحت لواء أو تنظيم واحد. ناهيك عن عجز أي جهة عن تنظيم الجموع والادّعاء بأنها تمثلها. وخير دليل على فشل أي إدعاء للتجانس والوحدة التي يمكن أن تظهر في تكتل أو بنية محددة المعالم، هو سخط جمهور عريض على البرلمان كجبهة شرعية تنفرد في التمثيل الشعبي. ومنذ اليوم الأول والثورة المصرية تحمل في طياتها عداءً شديداً للتمثيل والحديث بالنيابة عن الجموع. فالجموع تتحدث وتمثل وتعبر عن نفسها بشكل مباشر. فهذه ثورة بلا رأس يمكن قطعه، إلا أن هذا لا يعني أنها بلا عقل. فالرؤوس قد ذابت في أنسجة الجسد الثوري الذي يظهر كجسد مترابط في لحظات التشبيك بين الجموع. ولا يرتبط هذا الجسد والعقل بمساحة جغرافية معينة، وإنما يتنقل، وينكمش، ويتمدد على حسب المد الثوري وعمق التجذر وحاجة اللحظة.
ولم ينجح أي طرف في تمثيل الثورة أو التفاوض باسمها، وذلك على الرغم من كثرة الائتلافات والتجمعات. لقد سعت السلطة، منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة، بصورة جادة لخلق رأس للثورة. كانت البداية مع مفاوضات عمر سليمان، حيث حاول تجميع المعارضة السياسية الرسمية المتمثلة في أحزاب كرتونية هشة مثل، التجمع والوفد وجماعة الإخوان، وهي جماعة قوية ولكنها لم تكن المولّد الحقيقي للثورة. وتلت ذلك أكثر من محاولة لخلق رأس أو حصر تمثيل الثورة في بنية ما. وعلى سبيل المثال البرلمان وكذلك لقاءات بعض الأحزاب مع المجلس العسكري. لكن أغلب تلك المحاولات باءت بالفشل. ويمكن أن نرد ذلك الفشل، لعدم فهم طبيعة الجموع الجديدة وكذلك عدم قدرة الأنماط الكلاسيكية من العمل السياسي والتشريعي والتفاوضي على إحتوائها أو تمثيلها.
ولقد فشل نوعان من الأحزاب أو التنظيمات في فهم الثورة والتعاطي معها. النوع الأول من الأحزاب، هو ذلك النوع المتأثر بالفكر اللينيني، والذي يرى أهمية وجود حزب ثوري وطليعة ثورية تقود الجموع في عملية منظمة ومحسوبة وتكاد تكون مهندسة سلفاً، بعمليات رياضية دقيقة. ولقد حاولت مقاربات كثيرة فعل ذلك، وتكوين تنظيم ثوري من رحم ميدان التحرير، إلا أنها فشلت حتى الآن. النوع الثاني من الأحزاب أو التنظيمات الذي فشل في إستيعاب دينامكيات الثورة وأنماط تفاعلها، هو ذلك الإصلاحي التفاوضي والتدرجي. وذلك لأن هذا النوع محاصر داخل بنيته ويحافظ على التنظيم والحزب في ذاته ولذاته. وبالتالي فهو لا يملك مفردات المناورة والمباغتة في اللحظات الحرجة، بقدر ما يملك مفردات التدرج والتخطيط البعيد والمكاسب المجزءة وفقاً لمراحل محددة. أضف إلى ذلك أنه تعوّد على نوع آخر من العمل السياسي، الذي يفترض التفويض والتمثيل والخبرة وحكم القلة، التي تعبر عن الأغلبية سواء كانت منتقاة بشكل ديمقراطي أم لا. الأساس هو وجود مركز ونقطة إرتكاز، تمثل العملية السياسية وتركزها في حكم بعض الخبراء وليس الجموع المنضمة للتنظيم.
إن هذه الطبيعة الشجرية مغايرة تماماً، للثورة التي قامت ضد بنى القمع والقهر ورفضت الأحزاب والكتل الضخمة والمؤسسات المختلفة. حيث فشلت جميعها في التعبير عن تلك الثورة أو تحقيق أدنى مطالبها، أو حتى خوض معارك حقيقية ضد السلطة. ولم يكن هذا الشكل الشبكي الذي أتخذته الثورة وليد الصدفة أو اللحظة التاريخية. بل كان نتاج معاناة كبيرة قبل الثورة مع التنظيمات الشجرية، ورؤيتها وهي تفشل في خوض المعارك المختلفة ضد السلطة كمنظومة، حيث صارت هي جزء من منظومة السلطة في نظر الكثيرين. ومن هنا لم يكن صدفة أن نشهد سلسلة طويلة من الاضطرابات والتمردات داخل الأحزاب المختلفة قبل وبعد الثورة. وهناك نوع ثالث وهو السلطة الأبوية التي فشلت في الاستيعاب والسيطرة على تلك الثورة. وتعد السلطة الأبوية مكوناً فكرياً من مكونات أغلب التنظيمات. وفشلت كل محاولات الضغط على الثوار من قبل بعض وسائل الإعلام أو السلطة الحاكمة أو أهالي الثوار، والتي كانت تطالبهم بالعودة إلى بيوتهم و”احترام“ الرئيس الأب ومعه هيبة الدولة.
تر فض أغلب الأجيال الشابة البنية الهرمية والهيراركية للمجتمع والتنظيمات. تلك الأجيال التي شكلت العمود الفقري للثورة. وانعكس ذلك في التنظيمات والحركات السياسية التي ابتكروها. كما نلاحظ غياب التسلسل الهرمي في تلك التنظيمات، وأما قيادات بعضها فتعمل وتسمى كمنسقة وليس كرئيسة. وأصبحت القدرة على التنظيم المباشر والتعبير والفعل متاحة للفرد العادي كما القيادي، وذلك بسبب وسائل التكنولوجيا الحديثة. وبذلك قلّت الحاجة إلى تنظيمات متماسكة للتعبير عن الأفراد والجماعات، حيث تتيح هذه الوسائل إمكانية الاحتجاج بصورة مباشرة دون وسيط. كما نشهد استياءً عاماً وعداءً للأعباء التنظيمية ورغبة بالتحرر منها.
توقع بعض النشطاء، مثل باسم كامل من الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وعبد المنعم إمام من حزب العدل، أن تشهد الأحزاب السياسية رواجاً كبيراً بعد نجاح الثورة. إلا أن ذلك لم يحدث، بل على العكس، حيث نشهد ميلاد وموت حركات شبابية أكثر قدرةً على المناورة مثل حركة كاذبون. هذا ولم تشهد الأحزاب، التي يروّج لها أصحابها بأنها وليدة من رحم الثورة، أي حضور ملحوظ على الساحة السياسية. باستثناء حضور لبعض قيادات تلك الأحزاب، وهو بتأثير شخصي أكثر منه حزبي.
كما أن المتابع لحركات الشباب، قبل وبعد الثورة، يلاحظ المرونة التي تتسم بها تلك الحركات من حيث تنقل كوادرها وتجددها الدائم. وعلى سبيل المثال، كنت تجد عضواً ًمن حركة ٦ أبريل مشتركاً في الحملة الشعبية لدعم البرادعي ومطالباً بالتغيير، وهو نفسه أحد أعضاء، أو على تواصل متين مع، الاشتراكيين الثوريين. إذاً ما نشهده هي حالة من التجدد والتحول الدائم. كما أن هناك رغبة في السرعة والمرونة والفاعلية، أكثر من الرغبة في الثبات والاستقرار والديمومة والترقي الهرمي داخل الحزب. ولا شك أن كل تلك العناصر مخالفة للتعريف بالبنى الشجرية. فإضافة لما أسلفنا يتسم هذا الجيل بقدرة كبيرة على التواصل والتشبيك، وذلك على الرغم من الخلافات الأيديولوجية. ولا أريد الاستعجال هنا بالقول إن هذا الجيل هو جيل متجاوز للفروق الأيديولوجية، إلا أنه يمكننا القول إن هناك قدرة كبيرة وقابلية للمرونة تقلل من حدة الانقسامات الأيديولوجية كما عرفناها في السبعينيات من القرن الماضي.
هذا القدر من التحرر والتجاوز مكّن من مواجهة السلطة كنظام من مواقع مختلفة وبأنماط متعددة تتسم بالسيولة مما يضع السلطة في حالة إرباك دائم ومحاصرة. وعلى الرغم مما تقدم ذكره، هناك الكثير من النقد لطبيعة تلك الحركة. فالفيلسوف جيجيك يرى أن هناك أهمية لوجود قيادة ملهمة وحزب قادر على تنظيم ودفع العملية الثورية بغية الإجابة بسؤال السياسة في مستوياتها العليا.
الشباب بين السوق وبقايا المجتمع الانضباطي
تولد لدى الأجيال الشابة عداء شديد لآليات الإخضاع التي يتميز بها المجتمع الانضباطي. هذه ”المؤسسات“ تتمثل في الأسرة والمدرسة والسجون والشرطة والمستشفيات إضافة إلى سوق العمل. وتعد سوق العمل رمزاً للسيطرة. حيث يتم سحق هؤلاء بظروف عمل أصبح عدد كبير من الشباب فيها أنصاف العبيد، وخاصة في ظل الفساد المتوحش الذي شهدته مؤسسات الدولة المصرية المختلفة في العقود الأخيرة. وبمنظور فوكو، تقوم أي مؤسسة وسلطة بعمليتين رئيسيتين، وهما الاخضاع وإنتاج الذات. وتكمن المعرفة والتصورات في علاقات السلطة؛ أي أنها ليست في الخارج كحقائق مجردة، بل إنها نتاج لتلك الشبكات من علاقات القوى وممارساتها وأنماطها.
ففي المدينة تحديداً، فقدت الأسرة دورها الحقيقي كمؤسسة ضبط مجتمعي قيمي لسببين رئيسيين: صعوبة الحياة المادية وتفشي قيم الفردية والاستهلاك. وتحقق هذا الأمر على مستوى الأسر الفقيرة والمتوسطة والغنية. فالفقيرة والمتوسطة صار على أبائها وأمهاتها العمل لساعات طويلة أو العمل بوظيفتين وفي الغنية العمل لمضاعفة الصفقات. ولم يبقى من الأسرة غير شكلها القمعي، في كثير من الأحيان كسلطة مانعة، وإن غابت عنها إمكانية القمع.
أما المدرسة فتلاشى دورها لصالح الدروس الخصوصية، ولم يبق منها غير القمع والعنف الجسدي لمن بقي في الصف ولم "يزوغ عبر الأسوار أو حتى من البوابة الرئيسية". فأغلب المدارس الحكومية وحتى الكثير من الخاصة تعاني من ظاهرة التسرب الدراسي. وبالتالي فإن المدرسة كمؤسسة انضباط وجهاز أيديولوجي (مثلما يرى آلتوسير) فقدت كل قدرتها على ممارسة السلطة. وتبقّى فقط العنف الذي واجهه الطلاب بعنف مضاد ضد المدرسيين والمشرفين، حتى صاروا هم من يرهبون بعض الطلاب وليس العكس. ولم تعد المدرسة ولا الأسرة، هي ”المؤسسات“ التي تمتلك المحور الرئيسي الذي يشكل وجدان الفرد في مراحل تكوينه الأولى. بل إن الإعلام البديل والاستهلاكي هي التي تشكل تلك السردية إضافة إلى الشارع المفتوح.
أما فيما يتعلق بالمستشفيات، فقد تلاشى دورها لصالح المستوصفات الخيرية. وأما ما تبقى منها من مستشفيات حكومية فأصبح مرتبطاً بعذابات سوء المعاملة الروحية والجسدية، التي تصل إلى درجة امتهان كامل لآدمية الإنسان. وأصبحت السجون في زمن مبارك، بصورة خاصة، ملتقى للمجرمين المحليين، تساعدهم على تكوين شبكات إجرام بدلاً من أن تكون مكاناً للعقاب والتهذيب وإعادة التأهيل. ويعد السجن مؤسسة لإعادة تشكيل اجتماعي وليس بمعزل عن الواقع وسياقاته. وتلقى حالة تردي السجن وما يصيبه من عشوائية بظلالها على الواقع الاجتماعي. ومن روايات بعض منظمات حقوق الإنسان وبعض الإسلاميين فإن السجون المصرية شهدت تفشياً لأمرين، وهما العنف الجسدي وغياب الانضباط والتماسك الإداري للسجون.
وأخيراً ضغط دور الشرطة المصرية ليصبح رمزاً للخوف والفزع في عهد مبارك، بدلاً من أن يكون مصدراً للأمن والطمأنينة. بل إن الفساد تفشى فيها لدرجة أن الكثير من أعضائها أصبحوا جزءاً من شبكات الإجرام والدعارة والمخدرات والأتاوة والمصالح الاقتصادية. والأخطر هو أنها غابت كمؤسسة عن الساحة الاجتماعية في الحياة اليومية وصار ظهورها الفاجئ مرتبطاً بالبطش والعنف. خلاصة القول إن مؤسسات المجتمع الانضباطي فشلت بصورة كاملة في تأدية دورها وتحقيق المنافع المرجوة من ورائها.
ومع ظهور أزمة ”المؤسسات“ خلال العقود الأخيرة، إضافة إلى تعدد مصادر المعرفة، بدأ إنتاج الذات في مساحات جديدة. وهذه المساحات تبعد عن تلك المساحات المنغلقة في جدران مؤسسات المجتمع الانضباطي. مما أدى إلى خروج الأفراد عن سيطرة وهيمنة البنى الرمية والشجرية. ومن هنا فقدت الدولة أغلب أدواتها في ممارسة السلطة لإنتاج فرد طيع وصالح للقبول بما تفرضه عليه من قوانين ونمط حياة وتصورات معرفية عن دوره ودور الدولة وأهميتها.
إن ما سبق ذكره أعلاه يأخذنا إلى صلب البحث وهو تطور أنماط التنظيم مع تطور علاقات السلطة والبنية المادية للمجتمع واختلاف التصورات المعرفية. وقد أظهرنا في هذا البحث أن الأشكال التنظيمية والتمثيلية للجماهير مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بظروف عصرها المعرفية والمادية. فلقد كانت الثورة العرابية مهداً لميلاد الأحزاب. حيث تشكلت الأحزاب السياسية في مصر في مطلع القرن العشرين. وجاء تشكيلها من أجل تمثيل الجموع، التي أستشعرت بُعدها القومي الجديد من أجل مواجهة الاستعمار، ولاحقاً من أجل المنافسة على السلطة بكافة مستواياتها النقابية والبرلمانية. وعندما فشلت الأحزاب السياسية والتنظيمات الثقيلة في خلق أي تغيير جذري في مصر، شهدنا ميلاد الجموع الجديدة التي تأثرت بالتحولات العالمية في شكل ونمط السلطة والمجتمعات. ونشهد في مصر تحديداً، نجاح تلك الجموع الجديدة، التي أتت بثورة أطاحت برأس الهرم. وما زالت هذه الثورة، حتى كتابة هذه السطور، على طريقها في هدم بنية السلطة القديمة بصورة كاملة. وهي تطرح مفارقات في أشكال المقاومة الحداثية وما بعد الحداثية، كما أنها ما زالت في حالة مخاض مستمر.
لقد شرحنا لماذا هي أشكال مفارقة للحداثة، أما لماذا هي مفارقة لما بعد الحداثة فللأسباب التالية: القدرة على التجاوز ووجدود قيم ميتافزيقية بها، والنجاح في خلق قصة كبرى، وعدم الانشغال بتغيير القيم الثقافية والمجال العام فقط واهتمامها بهياكل السلطة العليا –على عكس الثورة الطلابية والجنسية في عام 68 في فرنسا وأوروبا تحديداً، البحث عن المشترك والحفاظ على التباين والاختلاف في نفس الوقت. وتحاول الثورة المصرية استبدال النظام بمعناه الواسع، (جهاز الدولة- الدولة كأسطورة حاكمة-النظام الاقتصادي والاجتماعي-المنظومة والقيم الثقافية- الأفراد الحاكمين في سدة السلطة). أما الثورة الطلابية في فرنسا تحديداً، فقد انشغلت بتكثيف جهودها على تغيير الثقافة العامة الحاكمة في المجال، ولكنها لم تكثف جهودها على الهياكل العليا من السلطة وأدوات الإنتاج. مما مكّن الرأسمالية-على حد تحليل الكثير من الفلاسفة- من استيعابها وابتلاع أغلب قيمها لصالحها. فمثلاً، بدلاً من أن تكون الأفلام الإباحية أو التعري، أدوات للمقاومة ضد المجتمع الأبوي، ونوعاً معيناً من الذكورية ومنظومة القيم الحاكمة للدولة، أصبحت سلعاً وصناعةً بيد الرأسمالية.
على كل حال، فإن لتلك الثورة منطق مقلوب في الحركة والتمحور. فبدلاً من أن تخرج من المصنع أو الجامعة إلى المجال العام أو لمحاصرة أو مداهمة هياكل أعلى أو أصغر من السلطة، فهي تخرج من اللامركز إلى المركز. فهى تزحف على الجامعة وليس من الجامعة وإلى المصنع وعماله، لا منهم ولا منه، كنقطة إرتكاز. هذا باستثناء عمال غزل المحلة، وما سبق من إضرابات عمالية، في عاميّ 2007 و2008. ولهذا فالثورة المصرية تطرح أسئلة حرجة على كل أدوات الحداثة في التمثيل والفعل السياسي.
ويصبح السؤال هو هل تستطيع الأحزاب السياسية أن تطرح نفسها كتنظيم سياسي فعال للجموع الجديدة، أم أنها إلى زوال في ظل تزايد العداء للتمثيل وسيولة الحركة السياسية؟ وهل تستطيع الأحزاب السياسية مقارعة السلطة كمنظومة، وليس أن تلعب دوراً معارضاً يرسم لها الحدود والمتاح في الفعل السياسي مسبقاً، في حالة عدم قدرتها على الوصول للحكم؟ كما يبقى سؤال السياسة على مستوياتها العليا واحتلال الدولة وحرب المواقع، هو كعب أخيل لذلك النمط من الثورات.